
عصام سداري _ صوت باتنة
طريق يختصر معاناة وأملًا
بين منعرجات جبال وادي الماء وأطراف مدينة باتنة، يمتد طريق الشلعلع كخطٍ أسود يروي فصولًا من التهميش والإصرار.
سنوات طويلة ظل الطريق عنوانًا للأوحال في الشتاء والغبار في الصيف، ومصدرًا لمعاناةٍ لا تنتهي لسكان القرى المتناثرة على ضفّتيه، قبل أن يُكتب له في 5 جويلية 2025 أن يتحوّل من حلمٍ معلق إلى مشروعٍ مستلم رسميًا بعد مشوار طويل من التعثر والتأجيل.

البدايات الأولى: مشروع على الورق منذ عقد
تعود فكرة إنجاز طريق الشلعلع إلى بدايات العقد الماضي، ضمن برنامج ولائي يرمي إلى فك العزلة عن التجمعات الجبلية المحيطة ببلدية وادي الماء.
الطريق الذي يمتدّ على مسافة تقارب 28 كيلومترًا، كان من المفترض أن يُنجز في ظرف 18 شهرًا فقط، إلا أن المشروع واجه منذ بدايته عراقيل متعددة: نقص في التمويل، صعوبات طبوغرافية، وتعاقب المقاولات المنجزة دون استقرار.
في سنة 2020، توقفت الأشغال بالكامل بعد أن بلغت نسبة التقدم حوالي 40% فقط، وهو ما جعل سكان المنطقة يفقدون الثقة في الوعود الرسمية.

توقف لسنوات ومعاناة متجددة
بين 2020 و2023، ظل الطريق في طيّ النسيان.
المواطنون في قرى الشلعلع، بوزغاية، أولاد سي سليمان وغيرهم عاشوا عزلة حقيقية، خصوصًا في الشتاء حين تتحوّل المنحدرات إلى أنهار من الطين.
النقل المدرسي كان مغامرة، والمرضى كانوا يُنقلون عبر الجرّارات أو سيارات الدفع الرباعي وسط مخاطر جمّة.

تروي “فطيمة.ع”، وهي مربية من المنطقة:
“في أيام المطر، كان الطريق يغلق تمامًا. كنا نقطع أكثر من 3 كيلومترات سيرًا على الأقدام للوصول إلى الحافلة. كأننا نعيش خارج الزمن.”
السلطات المحلية كانت تعِد بالتكفل، لكن المشروع بقي رهين ملفات مالية مجمدة ومناقصات لم تكتمل.
2024.. الوالي محمد بن مالك يعلن بداية جديدة
مع تعيين الدكتور محمد بن مالك واليًا على ولاية باتنة، دخل الملف مرحلة جديدة.
منذ الأشهر الأولى من توليه المنصب، وضع هذا الطريق ضمن قائمة المشاريع ذات الأولوية القصوى، نظرًا لطابعه الاستراتيجي في التنمية الجبلية.
في زيارة ميدانية يوم 22 جوان 2024، عاين الوالي الوضعية المتدهورة للطريق، وصرّح أمام وسائل الإعلام قائلًا:
“لا يمكن الحديث عن تنمية ريفية حقيقية في ظل بقاء طرق بهذا الشكل. طريق الشلعلع سيكون من أول المشاريع التي تُستكمل في أقرب الآجال.”
على إثر ذلك، تم تخصيص غلاف مالي إضافي قدره 3.5 مليار سنتيم لاستكمال الأشغال، وإعادة بعث الورشات ضمن الشطر الثالث من المشروع.
تحديات ميدانية وتقنية
المقاولة الجديدة التي تولّت الأشغال واجهت تضاريس معقدة، حيث يمر الطريق عبر مناطق جبلية شديدة الانحدار.
تم تنفيذ منشآت فنية لتصريف مياه الأمطار وإنجاز جدران دعم حجرية في المقاطع المعرضة للانجرافات، إلى جانب تعبيد مزدوج بالخرسانة الزفتية في أكثر من 15 كيلومترًا.

مدير الأشغال العمومية بالولاية صرّح قائلاً:
“العمل في هذه المنطقة أشبه بورشة مفتوحة على الطبيعة، فكل متر يتطلب حسابًا هندسيًا دقيقًا لضمان ثبات الطريق وسلامة العابرين.”
رغم الصعوبات، استمر العمل بوتيرة متصاعدة حتى مطلع جوان 2025، حيث بلغت نسبة الإنجاز أكثر من 90%، وتمت برمجة الاستلام قبيل ذكرى الاستقلال.
يوم الاستلام: 5 جويلية 2025 – طريق يرمز للانتصار
في صباح الخامس من جويلية 2025، توافد المسؤولون المحليون وسكان المنطقة إلى موقع المشروع.
برفقة السلطات الأمنية والإدارية، أشرف والي باتنة الدكتور محمد بن مالك على الاستلام الرسمي لطريق الشلعلع، معلنًا نهاية واحدة من أطول فترات التوقف التي عرفها مشروع محلي في الولاية.

في كلمته، قال الوالي:
“هذا الطريق ليس مجرد إسفلت، بل هو حياة جديدة لأهل هذه الجبال. وعدنا الناس بأن نعيد له النبض، واليوم نفي بالوعد.”
الاستلام جاء تزامنًا مع الاحتفالات بالذكرى 63 لعيدي الاستقلال والشباب، ما أضفى على الحدث رمزية وطنية وتنموية في آنٍ واحد.
أثر الطريق بعد الاستلام
خلال الأشهر الموالية، بدأ الطريق يغيّر ملامح الحياة في المنطقة.
أصبح الوصول إلى مدينة باتنة لا يستغرق أكثر من 25 دقيقة بدل ساعة ونصف، وتزايدت حركة المركبات الصغيرة والنقل الفلاحي بشكل واضح.
كما استُحدث خط نقل منتظم يربط القرى الجبلية بمركز المدينة، مما سهّل تنقل الطلبة والعمال.

يقول “عبد الكريم ب.”، فلاح من المنطقة:
“كنا نعاني في نقل المنتوجات الفلاحية، خصوصًا الزيتون والتفاح. اليوم الطريق مفتوح، والسوق أقرب إلينا من أي وقت مضى.”
🔹 البعد الاقتصادي والسياحي
يرى متابعون أن الطريق سيكون له أثر يتجاوز التنقل فقط، إذ يربط منطقة وادي الماء الغنية بالموارد الغابية والزراعية بباتنة مباشرة، ما يسهل جلب المستثمرين وتوسيع النشاط الفلاحيكما تُخطط مديرية السياحة لإدراج الطريق ضمن المسار الجبلي السياحي الذي يربط بلديتي وادي الماء وتيغانيمين، نظرًا لجمال التضاريس والمناظر الطبيعية التي يمر بها المسلك.
ورغم الفرحة بالإنجاز، أثيرت تساؤلات حول الكلفة الإجمالية النهائية للمشروع بعد إعادة التقييم، والتي يُقدّر مجموعها بأكثر من 9 مليارات سنتيم.
مصادر من المجلس الولائي دعت إلى نشر تقارير تقنية ومالية مفصلة لضمان الشفافية، خصوصًا في المشاريع التي شهدت توقفات متكررة.

في المقابل، أكدت مصالح الولاية أن المشروع استُلم وفق المقاييس التقنية الوطنية، وخضع للرقابة الميدانية من قبل مصالح الجودة والمخبر الجهوي للأشغال العمومية.
خاتمة: طريق أعاد الثقة
اليوم، بعد أن عاد طريق الشلعلع إلى الخدمة، لا يتحدث الناس فقط عن الإسفلت الجديد، بل عن عودة الثقة في قدرة الدولة على إنهاء المشاريع المعطلة.
من طريق منسي إلى مشروع استراتيجي، تحوّل الشلعلع إلى رمزٍ للتنمية الممكنة عندما تتوفر الإرادة والمتابعة.

يقول أحد سكان المنطقة مبتسمًا:
“من كان يصدق أن طريق الشلعلع الذي كنا نعبره بالمشقة، سنسير عليه اليوم في دقائق؟ إنها بداية عهد جديد لنا.”